و هذا سبب اخر للبقاء: بعد كل هذه السنين..
لازلنا مجانين!
(9/08)
بينما أعبث ببعض
الأوراق القديمة.. وقعت بيدي ورقة
كنت قد كتبتها منذ ستة عشر عاما مضت
ولم أصدق نفسي عندما وجدت أن محتوى
الرسالة التي تضمنتها يصلح لعصرنا
هذا. إن نزعتي الطبيعية ككاتب كانت
تلح على بأن أتلاعب قليلا بمحتوى
المقالة و أحدثها لتصبح أفضل مما هي
عليه. كنت أحاول مقاومة هذه النزعة
الملحة .. إلا أن أول ما خطر ببالي
عندما قرأتها هو هذا الانطباع: لابد
من أن نكون مجانين لنستمر بفعل شيء
كنا نفعله منذ ستة عشر عاما مضت ..
بعدما نجونا من الكثير من الأعاصير
و الأزمات .. مازلنا مجانين بعد كل
هذه السنين (واعتذاري لبول..) أو
ربما لازلنا محظوظين لأن نتجمد في
مكاننا وسط هذا الكم من الغضب
العارم !
سأتركم مع النص
الأصلي فهو يتحدث عن نفسه:-
إحدى صيحات التعليم وكذلك
إحدى مزالقه هو الشعور بأنك تركب مع
الأطفال لعبة الأفعوانية..مبحرا
معهم في حياتهم صعودا وهبوطا
محاولا مجاراتهم. عندما أجري
مقابلة مع أحد المعلمين المحتملين
ويخبروني بأنهم يدرسون لأنهم "يحبون
الأطفال" فإن هذا الجواب لا يترك
انطباعا مؤثرا لدى.. ليس لأني لا أحب
الأطفال ولكنه ذلك الانجذاب الطائش
لطفولة أسطورية الذي يؤثر في قليلا.
إن الطفولة تمتد إلى ما هو أعمق من
ذلك ؛ أنها تشمل تلك النظرة المفعمة
بالشغف عند اكتشاف شيء جديد وذلك
العناد وتلك الأنانية الغاضبة عند
رفضك تلبية مطلب ما لهم. إن محبة
الطفل تتضمن احترام متبادلو إحساس
صادق بحجم قدراتهم. إن الشخص الذي
لا يعرف كيف كان يمرح ويلعب ، يضحك
ويضحك الآخرون عليه... مثل هذا الشخص
قد يكون غير جدير بتعليم للأطفال.
إن ركوب لعبة الأفعوانية الدوارة
قد يكون مبهجا أو محزنا أو ربما
يكون مخيفا.. كل بدوره. فما من أحد يحتاج
لمساعدته في فهم كم هو مجزي ومرضي
أن ترى طفلا يكبر ويتعلم أمام عينيك.
إن الأطفال والحيوانات الأليفة هم
المخلوقات الوحيدة التي تهبك حبها
بلا قيد أو شرط. لكن معترك الحياة
أصعب بكثير .. من الصعب شرحه. من
الصعب مثلا أن تشرح لطفل أنك مجرد
مسافر كالآخرين في الوقت الذي يريد
منك فيه أن تقود الرحلة. من الصعب أن
تحطم قلب طفل يتوسل إليك أن تفعل ما
بوسعك لكيلا يذهب إلى والده في تمرد
على أمر محكمة قضت بذلك .. من الصعب
أن تحطم قلبه قائلا لست خارق القوى
الذي توهمت. هذا وليس هناك ما هو
أكثر تدميرا عندما تبذل كل ما في
وسعك لمساعدة طفل ما في محنته في
مقابل أب عاجز يلومك على ما تفعل
بدلا من مساعدتك في حل المشكلة !! في
التعليم كما في الحياة "من
الأفضل ألا تتدخل" . ولكن... تدخلك
هو المقصود ، فأنت لا يمكنك النزول
والتخلي عنهم أثناء الرحلة.
إن للتعليم جوانبه السلبية ، فأنا
أتذكر ذلك الصباح الملبد بالغيوم،
بعد يوم الثورة في لوس انجلس.. كنت
أقود مجموعة من الأطفال من حافلة
المدرسة إلى الداخل، جميعهم يضحكون
ويغمغمون في براءة متناهية .. عندها
فكرت بوضوح شديد في إمكاناتهم
المستقبلية. فقد كانو خليط من
الأطفال بيض وسود و لاتينيين
ومعظمهم فقراء. في تلك الأثناء كانت
لوس انجلس تهتم كثيرا بالطبقة
الاجتماعية تماما كاهتمامها
بالعرق الأمر الذي حاولت
وسائل الإعلام إخفاؤه آن ذاك. في
أعقاب أحداث لوس انجلس بكيت و أنا
أفكر فيما ينظر هؤلاء الأطفال أطفالي-
فهم أبنائي ولو في نطاق ضيق من تلك
الملكية التي يمتلكها المعلم. إلا
أنني فجأة انتبهت إلى أن الأطفال في
سن الرابعة أو الخامسة بالفعل في
موقف لا يحسدون عليه. إحصائيات
عديدة غمرت تفكيري و أنا أحسب
المصاعب والعقبات محاولا بجهد أن
أخفي إحباطي من عيونهم المتقدة
الفطنة.
في هذا اليوم و أيام أخرى
كثيرة- فكرت في الجانب الإيجابي من
الرحلة وهو الشعور بالبهجة والرضى
عندما تترك انطباعا جيدا لدى شخص ما.
إنها أمنية كل معلم ؛ أن يتذكره
الآخرون ، رغبته في أن يكون ذكرى
راسخة في عقل طفل تعيش وتنمو مهما
مر عليها من الأحداث. لكني مهما
تحدثت فلن أباري أمي التي بعد خمسة
وأربعين عاما من التعليم والتربية
لديها من الجرأة ما يجعلها تهاتف
الشخص الذي أثر وعلم في مشاعرها
وتجدد هذا الاتصال مرة أخرى.
ففي يوم من الأيام تلقت
أمي اتصالا هاتفيا من مكان بعيد
يحمل صوت بدا مألوفا لها . من المضحك
أحيانا كيف نشق طريقنا في مسالك
الذاكرة وحيلها، الأمر شبيه ب
الإنسان عندما يتخيل كيف سيتغير
شكله بعد مضى عشرون عاما. "مرحبا
، السيدة وولش؟ أنا ميريام إيرفينغ.
هل تذكريني؟"
ضحكت عندما سمعت الاسم .. فميريام
إيرفينغ كان تلميذة لأمي في رياض
الأطفال منذ عمر مضى. لقد كنت شديد
الإعجاب برغبتها الملحة بالاتصال ،
الأمر الذي أعطاها الشجاعة لتتصل
بالرغم من أن أمي قد لا تتذكرها.
فكرت أن لو كنت مكانها لما أجريت
مثل هذا اتصال أبدا. ميريام لم تعرف
ذلك ، ولقد كان من السخيف أن أعتقد
بأن أمي لن تتذكر .
لقد كانت ميريام في نفس
عمري، وكأطفال نشأنا ولعبنا سويا
لفترة من الوقت. فهي و إخوتها كانوا
تقريبا نفس سن أصغر أبناء أمي . لقد
كانت عائلتهم واحدة من عدد قليل جدا
من الأسر السوداء في مدينة "سالم"
في ذلك الوقت، وبالرغم من أن
صداقتنا نشأت في الأساس من صداقة
أمهاتنا فأنا أعتقد أن أمي
بتفكيرها المتحرر فكرت في أنه من
المميز أن نحظى بأصدقاء سود -
وبالفعل فقد قضينا أوقاتا ممتعة
سوية قمنا فيها برحلات معا. أتذكر
في حفلة أحد فصول الصيف كنا نلهو
ونركض هنا وهناك نجوب أرجاء المنزل
ويصفع أحدنا الآخر ، حين تحطمت إحدى
أسناني مصطدمة بمقدمة رأس ميريام .لقد
كان إخوتنا يغيظوننا بالقول إن
أحدنا يكن إعجابا للآخر، وبالفعل..
فأنا أعتقد أنها كانت الصديقة
الأولى لي بشكل أو بآخر..وبالرغم من
أن جرح رأسها قد التأم، إلا أن
ابتسامتي لازلت تحمل سنا مشوها
قليلا .. ذكرى للوقت الذي قضيناه
سويا.
لكن الذكريات التي كانت
تومض سريعا في ذاكرة أمي لم تكن هي
نفس الذكريات التي اتصلت ميريام
بشأنها، وهذا هو الجمال في مهنة
التدريس وذكرياتها. ستفاجأ دائما
بأن ما حفظته ذاكرة الطفل يختلف عن
ما حفظته ذاكرتك من أحداث. "هل
تذكرين روضة الأطفال" ؟ سألت
ميريام بصوت مملوء بالعاطفة. لمعت
عينا أمي حتى قبل سماع بقية القصة
من ميريام وانتفخت عيناها تحت ضغط
الوزنِ المتراكمِ للذكريات غير
المستغلّةِ سابقاً. " لقد كنت
ألعب بالطباشير على السبورة عندما
غطى الطباشير يدي" أكملت ميريام
" عندها جلست وقلت : يا إلهي!
يمكنني الآن أن أكون بيضاء
كالأطفال الآخرين". تذكرت أمي
الحدث فورا عائدة بالذاكرة لأواخر
الستينيات.. عندما خاف مكتب
التحقيقات الفيدرالي من اعتزاز
السود بأنفسهم وأنفتهم فقتلوا آل
بانثر في أسرتهم. " لقد جعلتني
اغتسل.. وقلت لي: لا يا عزيزتي. أنت
لست بيضاء أنت سوداء البشرة وعليك
أن تفخري بذلك" استطردت ميريام
" بل و جعلتني أقف و أصدقائي في
حلقتنا الجماعية النقاشية لأقول
لكل الأطفال الحاضرين أني لست
بيضاء، بل سوداء، واني افخر بذلك.
هل تذكرين ذلك ؟"
ضحكت أمي ضحكة خافتة مرة أخرى..بالطبع
كانت تتذكر. لكنها لم تدرك كما
أدركت ميريام أن ذلك الموقف عنى لها
الكثير. "لست متأكدة إن كنت
تعرفين ما عناه لي ذلك الموقف.. لقد
ترك انطباعا كبيرا لدي". إنه حقا
شيء عجيب، لقد كانت أمي
تفكر في أنها تفعل الصواب لأنه
الصواب ولا تحسب حسابا للمستقبل.
والآن بعد عشرين سنة ومسافة الآف
الأميال يظهر هذا الموقف مجددا
كصاعقة غير متوقعة! "على أية حال"
تابعت ميريام " موعد زفافي الشهر
القادم ولكم أود أن تكوني حاضرة"...
وبكت أمي عندما انتهت المكالمة.
ذهبت- بالطبع - في حافلة
ليلية إلى ولاية فرجينيا حيث
انتقلوا. لقاء غلبته الدموع ثم وداع
سريع مع لقاءات سريعة و أخيرا كانت
في طريق عودتها للشمال. بعثت لنا
ميريام بصورها عندما رزقت بمولود
ثم بمولود آخر على ما أعتقد.. لكن
الاتصال انقطع بيننا مرة أخرى.
لا أعتقد أن ميريام فهمت-
تماما كما قالت لأمي ذات مرة- الأثر
الذي تركته فينا بظهورها على هذا
النحو. لقد كانت تتحلى بالشجاعة
والجرأة التي جعلتها تتصل بأمي بعد
كل هذه السنين مغامرة بأن أمي قد
تكون نسيتها. لم تعرف أمي بما نفعله
الآن: لم يكن باستطاعتها التنبؤ
بأننا سنحاول بناء نظام تعليمي
بديل يتخطى فروقات الطبقة والعرق
والثقافة. لم تعرف ؛ كان كل مرادها
هو فعل ما رأته صوابا في ذاك الوقت
لا أكثر وهذا ما يجعل القصة أكثر
قوة وتأثيرا. أخذت اقلب الذكريات في
عقلي وكأنها حجر كريم يصقل عندما
تقسو عليه الحياة. أتمنى لو أعيش ما
يكفي لأقص عن نفسي قصص كهذه فأصبح
مصدر فخر للآخرين تماما كما أفخر
بأمي وميريام. اتمني لو تعرف ميريام
بالأثر الإيجابي الذي تركته لدى
الآخرين بشكل مباشر أو غير مباشر و
الإلهام الذي جددته في نفوسهم ..
أعتقد أني سأقوم بهذه المهمة.
---------------------------------------------------------------
وجدت تشبيه الحجر الكريم مؤثرا جدا
عندما أعدت قراءة المقالة ، أعدت
قراءة القصة القديمة وتركت الكلمات
تغمرني كبلسم شافي كنت في احتياج
إليه. لقد
شارفنا على الإغلاق في أكثر من مرة.
كان علينا أن نقف بوجه المطورين،
وهؤلاء ثقيلي الدم الملـحين ،
بالإضافة إلى المنظمين المتهورين
المخطئين وطبعا البنوك وغيرها من
الأجهزة الاتحادية . لنظل نفعل ما
نفعل .. من الصعب أو وربما يعد
تفاؤلا مفرطا أن تفتخر بقدرتك على
التواجد كإنجاز في حد ذاته. ربما
كان كيبلينج مصيبا عندما قال : "
إذا استطعت أن تحتفظ برباطة جأشك
عندما يفقد الجميع من حولك رباطة
جأشهم ويلومونك بسببها ؛ ...."
توفى والدي بمرور الزمن، أما
ميريام فتوفي زوجها وشقيقها وأنا
وجوليا بقينا سويا تقريبا منذ أن
بدأت الكتابة. أما أمي فقد أطال
الله عمرها لتحتفل بعيد ميلادها
السبعين مع ميريام ووالدتها لتبلغ
الثمانين ..ولازلت حية ترزق.
على نطاق أوسع فإن اَللَّجَاجَة في
معالجة أمور الفقراء بلوس انجلس
أصبحت مشكلة صغيرة مقارنة بما حل
محلها مما هو أكبر و أعمق مما جال
بخيالنا في وقت من الأوقات. لقد
تولد انفجار حقيقي من القسوة
والإرهاب ، وأعداد هائلة من
الفقراء حول العالم كنوع من فائض
الإنسانية، بداية من نيو أورليانز
إلى غزة وما هو أبعد من ذلك. إن
النخبة الحاكمة تتحدث بصوت واحد
حيث فجوة الثروة تنمو باطراد ، وما
من نهاية تلوح في الأفق أو أمل
حقيقي في إحداث تغيير كبير بداية من
البرنامج الانتخابي الذي يسطع فيه
أناس محملون بالأموال.
من الصعب حقا تحمل ذلك ، أتمنى لو
أجد ذلك الشيء الذي يشعرني
بالارتياح حتى ولو شعرت بأني ذلك
الربان الذي يجري وراء الأوهام في
"قابيل قائد التمرد" لهيرمان
ووك واستعرض جنوني في جلسة علنية.
هل سأحتفظ بهذه الوظيفة؟! اعتقد ذلك
. ألازلت مجنونا؟ لربما ! لكن الأهم بالرغم
من كونه عاديا- أني لازلت موجودا
بعد كل هذه السنين.
^
Top ^
©
2003 دانيال باتريك ويلش. مسموح
بإعادة الطبع مع الإشارة للكاتب
ووضع رابطة لموقع
Translated
by Shireen
|